المقدمة:
مهما حاول القانون الوضعي الإحاطة بكل جوانب الواقع الذي يجاريه ، إلا و وجد نفسه محاصرا من أمامه بأحداث و أعمال لا حصر لها و من خلفه بجدار سميك مغلف بعلاقات متشابكة و معقدة و متضاربة تضارب المصالح و الرغبات التي أفرزها تطور المجتمع وأساليب العيش فيه، و هو ما أكده Portalisبإقراره أن » التوصل إلى تقنين الكل أمر
مستحيل، مهما بلغ التشريع من الدقة و الكثافة لا بد و أن يغفل عن مجال من المجالات أو عن جزء منها «
إذ تتخذ الوقائع و التصرفات القانونية مساحة لا متناهية مقابل قواعد مكتوبة و منظمة تبقى على كثرتها وتشعبها محدودة، لهذا يجد القاضي نفسه في أحيان ليست بقليلة أمام مشكل قانوني تجانبه حالة سكوت النص يكون ملزما معه بالتسوية.
و أحيانا قد يخير ااشخص السكوت و الصمت عن الكلام لتجنب المضرة و تحقيق الأمن و السلامة لكن صمت المشرع مهما كان مبرره قد يخلق مشاكل و يسبب أرقا للفقهاء و القضاء فيثير جدالات تتعلق بتأويل ذلك السكوت للخروج بحل لواقعة لم ينظمها المشرع. فنص القانون وضع ليحكم الفروض و الحالات التي تقع في الحال و المستقبل و لكثرة التطورات التي تحدث في الحياة الاجتماعية، كل هذا يتطلب تفسير و تأويل النصوص لتتناسب مع هذه التطورات المستمرة و المستجد. فالقانون هو من وضع البشر و مهما كان واضعه فانه لا يستطيع أن يجمع في تشريعه كل ما يستجد في المستقبل. كل هذه الأسباب جعلت التفسير لازما لتطبيق القانون، فالتفسير يلازم المصدر الرسمي للقانون وهو التشريع.
و المشرع التونسي من خلال الفصلين 532م.ا.ع و 535م.ا.ع أقر بامكانية غياب الوضوح عن نص القانون فيعد نصا غامضا أو كذلك نصا ساكتا عند غياب حكم تشريعي لمسألة ما مما يستوجب تدخل سلطة أخرى خارجة عن المشرع ألا و هي السلطة القضائية لإجلاء الغموض في حالة النص الغامض و سد الثغرات في حالة النص الساكت.
و مصطلح النص قانونا هو التنصيص المكتوب الصادر عن سلطة لها اختصاص تقنيني
قصد التنظيم المسبق لعلاقات الأفراد بالمجموعة، بما يترتب عنه حل النزاعات التي قد تنشأ بينهم.
و يعد النص القانوني وحدة أو خلية من الخلايا التي يتكون منها القانون، و يمكن أن يتسم بعدم الكمال خاصة عند سكوته.
و ينصرف السكوت لغة إلى معنيين إلا و هما السكون و الصمت ، و ما يعنينا هنا هو الصمت، و هو » انقطاع الكلام « أو » تركه مع القدرة عليه « ، كما عرف على انه » حالة سلبية غير مصحوبة بلفظ أو إشارة أو فعل شيء ينبئ عن الإرادة أو يدل عليها « أما اصطلاحا فيقصد به حالة الفراغ التشريعي التي يعرفها المعجم الفرنسي Le Littréبكونها » انقطاع بداخل النص « و يزيد عنها Larousseباعتبارها » الجزء الشاغر داخل جسم ما أو الناقص لإتمام سلسلة أو شيء ما « و لعله من الصواب تشبيه الجزء الشاغر بالثغرات التي اعتنى العديد من الأساتذة و الفقهاء بدراستها و تصنيفها مثل A-G .Conteالذي قسم الثغرات إلى نوعين : أولهما ثغرات ايتيقية أخلاقية Les lacunes déontologiquesالتي تظهر عندما يكون النظام القانوني غير متماشي مع ما يجب ان يكون، و ثانيها ثغرات انطولوجية وجودية Les lacunes ontologiques و تبرز في صورة عدم التلاؤم مع ما يوجد، أو ما وضعه الفقيه الألماني Urlich Klugمن تقسيم آخر يحتوي على ثمانية تفريعات، كالتفريق بين الثغرات الحقيقية وغير الحقيقية و الثغرات التشريعية و الثغرات القانونية، ناهيك على الفراغ القصدي و غير القصدي و الفراغ الأولي و الفراغ الثانوي.
فالسكوت إذن إمتناع عن التعبير يخفي جملة من الدلالات، لذلك اختلفت معانيه حسب الحالات. و لعل ما جلب انتباه شراح القانون أن السكوت و لئن كان مفهوما دخيلا عن المجال القانوني، إلا أنه حظي باهتمام الفروع القانونية الأخرى المختلفة بما في ذلك القانون المدني. و بدا السكوت في القانون المدني المنظم لعلاقات الأفراد فيما بينهم مفهوما مخلا باستقرار المعاملات. و فرض نفسه كوضعية جامدة تتطلب التقنين و التنظيم.
وتختلف التعاريف الفقهية بخصوص هذا المفهوم ،فذهب من ذهب إلى القول بأنه عبارة عن غياب حكم نص يل حالة معينة ،وهنا كمن قال بأنها ذكر المشرع لوضعية عامة دون الخوض في تفصيلها ،فيحي نعبرعليها جانبآ خرب أنه حالة خاصة لغياب قاعدة قانونية كان من المفترض وجودها في النظام القانوني ، وتبعا لهذا، أشار بعضهم إلى أن الحديث عن الفراغ ككل لايمكن أن يكون إلا بطريقة سلبية نظرا لانعدام ما يمكن أن يعرف به، على أن هنا كمن رأى فيه مقصود آخر ،إلا وهو غياب حكم في إطار النص التشريعي المكتوب وليس في كل المنظومة القانونية، نظرا لكون إطار المنظومة القانونية اشمل و أوسع من النظام التشريعي.
وربما يرجع غياب تعريف موحد للفراغ التشريعي إلى صعوبة» الإحاطة بمفهوم القانون ذاته وهو ما عبر عنه Forriers بقوله: » إننا جميعا نمارس القانون لكننا لا نعلم
بالضبط المعنى الحقيقي لهذه الكلمة لأنها جد ذاتية وتفترض اتفاقا مستحيلا حول بعض المسائل الأصلية«
و بالتالي ورغم صعوبة تقديم تعريف موحد له فانه بالامكان تحديد مواقع الفراغ و ابرازها ،فالفراغ هو العدم الذي لا يمكن أن يعرف إلا بطريقة سلبية. و مبدئيا يمكن أن نعرف الفراغ .باعتباره حالة خاصة لغياب قاعدة قانونية كان من المفترض وجودها في النظام القانوني
غير أن هذا التعريف لم يكن محل اجماع فقهي، إذ حاولت فئة من الفقه توسيع هذا المفهوم .
كما لا تعترف فئة أخرى بوجود الفراغ التشريعي الذي أقرته أغلب التشريعات و نظمه م.ا.ع ضمن قواعد التأويل و ذلك بعد أن أقر بغموض النص 535القانون التونسي بالفصل
.م.ا.ع532في الفصل
ولاريب في أن حساسية مسالة سكوت النص تستوجب في كنهها الإشارة الجادة إلى الإلزامية المحمولة على القاضي لفض النزاع ، وهي إلزامية مؤسسة على عماد الحق الممنوح لكل فرد في أن يتم سماعهم نطر فالقضاء يطالب بحقوقه أو ليسترجعه ابدلا لتصرف بمفرده والتذرع بعجز السلطة الموكول لها إرساء العدالة.
وعليه ، كان محتما على القاضي المنتصب لفصل النزاع أداء وظيفته وإرجاع الحقوق إلى أصحابها و لو لميجد قاعدة تشريعية تنطبق على الوضعية المعروضة أمامه أو حلا واضحا يحكم وفقه وإلا عرض نفسه لجريمة إنكار العدالة على معنى الفصل108 من المجلة الجزائية و هي جريمة تقوم أركانها عند رفض القاضي صراحة أو ضمن االفصل في الدعوى أو تأخير الفصل فيها رغم صلاحيتها لا نتفصل ،وتجد هذه الإلزامية صداها فيا لعديد من التشريعات المقارنة كالفصل6 من المجلة المدنية الاسبانية لسنة 1889أوالفصل 5من القانون القضائي البلجيكي المؤرخ في10أكتوبر 1967أو الفصل4 من المجلة المدنية الفرنسية الذي أثار تأويله جدلا كبيرا بين الفقهاء جعلهم ينقسمون إلى عدة تيارات، منهمالتيار الأول الذي اعتبر أن الفراغ التشريعي شيء ونكران العدالة شيء أخر بل انه لا وجود أساسا لما يسمى بجريمة إنكار العدالة طالما تم رفض النظر في الدعوى لغياب نص من نصوص القانون الوضعي يعالج المسالة ، و هي نظرة مستقاة من فكرة مفادها أنك لما لم ينظمه التشريع يبقى خاضعا لمبدأ الحرية و الإباحة ، كما انهم تقارب مع التصور النظري لمدرسة الشرح على المتون ، و هي المدرسة التي ظهرت على اثر ظهور المجلة المدنية الفرنسية لسنة1804 و بالتحديد في سنة 1808 حيث أدى الانبهار الشديد بها إلى اعتبارها» عمل عقلاني لا بديل له « آت» على كل المشاكل والمسائل « إلى الحد الذي جعل أحدهم يقول للتعبيرعن التماهي الكلي بين القانون المدني و المجلة المدنية:
« Je ne connais pas le droit civil, je n’enseigne que le code Napoléon
» وجملة قولها انه لا مجال لتدخل القاضي للإتيان بجديد ، وحتى إذا ما تبين غياب النص فعلا ، و هو مايتناقض مع فكرة كمال التشريع ، فمن المستحسن التفريق بين النية المصرح بها للمشرع و نيته المفترضة و القيام باستنباط حل قائم على إعمال قواعد المنطق لبلوغ المنشود من الموجود أي استخلاص الحكم الغائب من الحكم الموجود ، وبذلك فقد تم تجاوز العيب الحاصل باستنباط منهجية تقوم على أساس البحث في النية المفترضة وهو ماتأثر به المشرع التونسي بشكل لايمكن إنكاره سواء من خلال تبنيه لمنهجية المدرسة في التأويل أو من خلال تفرقته بين صورة الغموض و صورة النقص التشريعي و يرى الفقيه بلوندو Blondeauأن المصدر الوحيد للأحكام القضائية يجب أن يتجسد في التشريع ومن التشريع ، كما انه يقر بإمكانية الاضطرار إلى التأويل على أن لا يكون ذلك إلاانطلاقا من النصور وحال نص و لا عملب أي مصدر أجنبي عن النص وهو عين ما جاء على لسان الفقيهين Demelombe و Huc في حين اتجه الفقيه فرونسوا جيني François Gény رائد مدرسة المنهج العلمي الحر التي شدما نقد تمدرسة الالتزام بالنص، إلى البوحب ان هذا التأويل للفصل 4 من المجلة المدنية الفرنسية مؤسس على ما يعبر عنه ـ} أسطورة كمال التشريع{ لذلك لايمكن له أن ينجح بأي وجه من الوجوه ،و يحق التصريح في هذه النقطة بأن قولها لمتقدمي شكلو بقوة مرآة عاكسة لموقفهم نها بوصفه المعارض الأول لما جاء تبه من فلسفة ارتآها مثالية لا تمتللوا قعب صلة مادامت تقيد القاضي و تمنع التطور و التطوير ،فإذا كان التشريع هوالمرجع الأول للقاضي فإنه لا يمكن اعتباره المرجع الوحيد في صورة غياب نص حقيقي يفشي بكنه الإرادة الحقيقية للمشرع ، إذ لا يعقلا للجوء إلى » إرادة خيالية زائفة و مصطنعة «، على حد تعبير الأستاذ كمال شرف الدين ، بدل البحث عن حل خارج يقد يتسم بالجلاء في مصادر أخرى ، فهو يوجب الاعتراف بالنقص التشريعي مما يتوجب معه دفع القاضي إلى البحث العلمي الحر من القيود و اتخاذ المصادر الشكلية الاحتياطية منطلقا لاستنباط الحل بالإجابة عن سؤال : ماذا كان المشرع ليجيب لو انه تعرض لنفس الإشكال ؟ أو ما السبيل الذي كان ليعتمد هل وطرح أمامه نفس النزاع؟ وإجابة عن هذا ، يرقى جيني بالعرف واضعا إياه بمحاذاة القانون المكتوب ليكون بمثابة المصدر الشكلي الذي يرجع إليه في حالة سكوت النص ، و في غيابه يفتح المجال للعمل بالقياس و بقواعد المنطق على انه يؤمن بأن إقصاء فقه القضاء من دائرة مصادر القانون يبقى الأصل الذي لا يمكن الحياد عنه : لأن مبدأ الفصل بين السلط يفرض عدم تداخل مهام السلطات في بعضها و لا نمهمة الصناعة التشريعية لا يمكن أن تتماهى مع السلطة القضائية و لا أن تخلق حيز اللحديث عن صناعة قضائية و لأن هي رى في ذاك المكسب قدسية لا يمكن المساس بها فمكانة القاضي مصانة وسلطته لا يستهان بها دون أن يجعل ذلك من أحكامه مصدرا شكلي للقاعدة القانونية أما التيار الثاني فيرى أصحابه أن الغاية من منطوق الفصل4لا يمنح القاضي البتة مهمة التشريع لان ذاك مما يتنافى مع القواعد الدستورية ، ويرون بأن الفصل 4لاي رمي إلا لسد النقص الحاصل من التشريع l’insuffisance de la loi،الشيء الذي يلزم القاضي لا بسد الفراغ ، لأن ذلك من مهام المشرع و إنما بإكمال التشريع بالعودة إلى جملة ا لمصادر الأخرى للقانون. في حين يتكون التيار الثالث من مناصري فكرة الدور الخلاق للقاضيle pouvoir normatif du jugeوهي أطروحة شدما دافع عنها الفقه الحديث ، و تستمد أساسها من التغلغل في عمق الطبيعة الحقيقية للوظيفة القضائيةla véritable nature de la fonction juridictionnelleضرورة أن وظيفة القضاء هي النطق بالقانون وهي وظيفة مستقلة و غير خاضعة للسلطة التشريعية كما أن دور القاضي لايتمث لحصر افي تنفيذ القانون بمعنى انه ليقوم بتطبيقه آليا فيما يعرض عليه من نزاعات ولكنه يساهم كذلك في تكريس القواعد العرفية و المبادئ العامة للقانون بل ويتجاوز ذلك إلى خلق قواعد قانونية قائمة بذاتها و هو مادافع عنه الفقيه الصادق بالعيد عندما أكد على أن دور القاضي لايقتصرعلى فض النزاع اتترتيبا على التشريع الموجود وهو ما يست روحها لمتأمل في اعتبارات عديدة، منها أن التشريع وحده منقوص حتما و أن مركز القاضي في المنظومة القانونية كهيكل منظم للمجتمع و مختصب الحفاظ على النظام العامun organe régulateur et pacificateurيوجب عليه لامحالة صناعة القانون. إلا ان هو مهما يكن من أمر فان طرح فكرة الدور الخلاق للقاضي على رحابة ما لاقته من ترحيب من قبل الفقهاء المعاصرين ، إلا أنها أعاقت مبدأ الفصل بين السلط الذي كرسه مونسكيو منذ عصور الانوار والذي اكتسى مع مرور الزمن و تتالي الثورات طابعا كونيا و مكانة دستورية لا يحتمل تنحيتها أو غض البصر عنها. صفوة القول بعد المبسوط من الكلام ، هو أن التعرف على ملامح مسالة سكوت النص لايكون ملموسا إلا بعد النظر إليها بعين الواقع التطبيقي ، فهي تثار أو لما تثار عند انتصاب القاضي للبت في النزاع المعروض أمامه و لا يجد مع ذلك نصا تشريعيا واحدا يلمسه أو يضع الحبر عليه في ستعين بما من شانه تدليله على الأسانيد التي يمكن الاتكاء عليها وتبعا لهذا ـفانه ينظر للقانون التونسي بوصفه واحد من بين الأنظمة القانونية النادرة التي أوردت قواعد تقنية لتأويل القانون أو لسد الشغور اتفيه على أن ذلك لا يمنع المنتصب للحكم من البحث عن آليات أخرى خصوصا وأن الحلال تشريعيا لمتاح بالفصل535من مجلة الالتزامات والعقود متسم بالغموض هوالآخر و بذلك اعترف المشرع التونسي بامكانية سكوته و عدم كمال ما يشرعه و يقر للقلضي بأهمية دوره كسلطة تفصل ما يثار من نزاعات بلاستناد إلى قواعد قانونية تصدرها سلطة أعلى منها طبقا للدستور كما أتاح القاضي التدخل لتدارك سكوت القانون بقواعد تأويلية.وضعها صلب مجلة الالتزامات و العقود و بذلك تطرح الإشكالية التالية : ما هو النظام القانوني النص الساكت؟دراسة هذا الطرح يجب التعرض أولا إلى ضبط مجال سكوت النص ثم إلى منهجية تأويل .هذا السكوت
الجزء الأول:
ضبط مجال سكوت النص
الجزء الأول: ضبط مجال سكوت النص
ان الإجابة عن المسألة المطروحة تستوجب التطرق في مرحلة اولي إلي ماهية السكوت )أ( ومن ثم إلي حالات السكوت )ب( في مرحلة ثانية .
أ-ماهية السكوت
يقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه "ماندمت علي سكوتي مرة لكني ندمت علي الكلام مرارا "ورغم ما لهذا الرأي من وجاهة علي المستوي الإجتماعي وفي إطار العلاقات الإنسانية الا أن السكوت في مجالنا القانوني يمثل اشكالا حقيقيا يستوجب الوقوف عنده.
ويقصد بسكوت النص في هذا الإطار صمت المشرع أو إعراضه عن التشريع مما يحول دون تبيان مسألة معينة وهو ماينجر عنه فراغا تشريعيا ،ويخنلف سكوت النص عن حالات مشابهة له من حيث النتيجة القانونية الحاصلة منها والتي تتطلب في نهاية الامر اعمال قواعد التأويل لحسم مسألة معينة وهي حالات غموض النص أو عدم كفايته الا أن سكوت النص يختلف عنهما من حيث عدم وجود نص اساسا.
وقد لاحظ بعض الفقهاء أن مشكلة سكوت النص أو وجود الثغرة التي يحدثها هي مشكلة كامنة منذ القدم وبعيدة عن كونها جديدة حيث أدركوا بمرور الزمن حتمية وجود الثغرات التشريعية وسعوا الي وجود حلول لها
ويطرح سكوت النص أو الفراغ التشريعي مسألة مهمة جدا وهي مجال السكوت ،اذ يعتبر حاصلا في القانون أو التشريع .
إن الإجابة عن المسألة المطروحة تتطلب التمييز بين التشريع والقانون، ويتكون القانون من جملة من المصادر المادية ،والشكلية المتمثلة أساسا في التشريع ،أما التشريع يتمثل في مجموعة من القواعد المكتوبة والتي تصدر عن سلطة مختصة بالتشريع في دولة ما.
ويتضح مما سبق ذكره أن القانون شامل للتشريع وأن التشريع جزء لا يتجزء من القانون وهو ما دفع قسم هام من الفقهاء وفقه القضاء الي اعتبار انه لا وجود لفراغ في المنظومة القانونية عملا بما استقر عليه الآمر حسب هرم كلسن ،فما لم تنظمه المجلات القانونية والقوانين الخاصة يبقي خاضعا للدستور ومايليه وفق ترتيب تفاضلي.
وبناءا علي سبق ذكره فإن سكوت النص وبالتالي وجود الفراغ التشريعي في هذه الحالة يشمل التشريع دون القانون ،وفي هذا الصدد ظهرت عدة مدارس للتآويل في اوروبا والتي تناولت مسألة التشريع ودور القاضي المدني في إلاسهام في مصادر القانون والتي شكلت المناخ الذي واكب صدور مجلة الإلتزامات والعقود والذي كان له تأثير كبير في خيارات المشرع زمن وضعها،ولعل من أبرزها يمكن ان نذكر:
مدرسة الشرح علي المتون : تعتبر من أهم المدارس التي دافعت عن مسألة كمال التشريع وخلوه من الثغرات ووجوب المحافظة عليه واعتباره المصدر الوحيد للتآويل بآعتبار أن إرادة المشرع موجودة في كل الحالات ولا تتطلب إلا كشفها ،ولقد واجهت هذه المدرسة مسألة غياب النص موضوع الدرس بنوع من التململ فهي صورة تناقض كمال التشريع ولكن التفريق بين النية المصرح بها والنية المفترضة سمحت لرواد هذه المدرسة بتجاوز التناقض الحاصل باستنباط منهجية خاصة لتآويل السكوت وسد الثغرة
مدرسة البحث العلمي الحر: يعتبرمن رواد هذه المدرسة François Gényوالذي يعارض
تماما مسألة كمال التشريع ويري أنه يجب أحيانا الإعتراف بالنقص التشريعي وهو ما من شأنه أن يدفع القاضي للقيام ببحث علمي حر ليتوصل إلي حل جديد يطبقه على النزاع
ويطرح سكوت النص إضافة إلى ماسبق وتعرضنا إليه مسألة تحديد المعيار المناسب للحديث
عن فجوة في القانون والذي شكل محل جدل وآختلاف كبير بين الفقهاء حيث يري شق أول أن كل التشاريع حتي ولو كانت مكتوبة بعبارات واضحة وصريحة فهي تبقى غير كافية وتحتوي ثغرات تستوجب ملؤها .
ويري شق آخر أن معايير تحديد الفراغ التشريعي هي نفسها المعايير التي تسمح للقاضي بالتصريح بوجود الفراغ ،وبالتالي فإن الآليات التي يعتمدها القاضي للوصول لحل يحسم النزاع هي نفسها معايير تحديد الفراغ التشريعي،ولكن هذا التوجه في تحديد معيار للحديث عن فجوة في النص القانوني خاطئة ولا علاقة لها بالصحة لأنه وببساطة لا يمكن أن يمثل القياس مثلا معيارا لتحديد السكوت وآلية لملء الفراغ.
ولكن تجدر الإشارة إلي أن هذا التناقض القائم بين الفقهاء لم يدم طويلا ومرجع الوفاق هو ا التوصل آخيرا إلي معايير موضوعية تحدد الفراغ ذلك أنه لتحديد معيار سكوت النص وجب الإنطلاق من المعني المعتاد لهذا المصطلح والذي يظل مرتبطا بفكرة الفراغ دوما، ونظرا لعدم إمكان تعريف الفراغ إلا بما يناقضه من الحالات الخالية منه وقع التعامل مع هذه المشكلة بإستبعاد الحالات التي لا ثغرة فيها ولا شغور
وبناءا علي ذلك فإننا لا يمكن أن نتحدث عن سكوت النص في ظل وجود نصوص واضحة كانت أو غامضة أو حتي في صورة وجود تناقض بين القوانين،كما لا يعد فراغا تشريعيا اذا ماتعلق الآمر بقواعد الآداب والأخلاق فالقانون لا يشمل كامل السلوك البشري لأن السلوكيات البشرية كثيرة ومتعددة بتعدد الطقوس والمقامات وبالتالي فإن الإحالة إلي العرف والعادة الواردة في عدة نصوص لا تعتبر سكوتا.
ب- حالات السكوت
يعد من المسلم به أن المشرع لن يستطيع التعرض إلي جميع المسائل التي يمكن أن تطرح في الواقع المعاش وهو ما يفرض أحيانا وجود حالات سكت المشرع عن تنظيمها أو التعرض
لها مامن شأنه أن يطرح عدة آشكالات في مستوي العمل القضائي حيث يجد القاضي نفسه أمام وضعيات سكت المشرع عن تقديم حل لها من شأنه أن يحسم النزاع فيها ، وبآعتبار ما يشكله مرفق القضاء من ضمانة لحماية الحقوق الفردية والجماعية وآستقرار المعاملات يجد القضاة نفسهم ملزمون بالفصل في النزاع المعروض عليهم من طرف المتقاضين رغم غياب
النص التشريعي وهو ما سيجنبهم بطبيعة الحال عدم الوقوع في جريمة آنكار العدالة.
وتجدرالإشارة هنا إلي أن الصعوبة التي يمكن ان تعترض القاضي في ظل وجود فراغ تشريعي يحول دون الحسم في النزاع تختلف حدتها بآختلاف نوع السكوت.
ويري بعض شراح القانون أن السكوت ينقسم الي صنفين: سكوت قصدي و غير قصدي فأما السكوت القصدي فهو يظهر عندما يكون واضع القاعدة القانونية قد قصد أن يتم سدها من قبل الغير كالقاضي فهو سكوت عن وعي تام من المشرع يمكن أن يكون لأسباب سياسية وآجتماعية وذلك نلاحظه خاصة في مجلة الأحوال الشخصية حيث آختار المشرع عدم الخوض في مسائل معينة أو عدم وضع نص واضح يحسم في مسألة ما حيث يجد المشرع صعوبة في التوفيق بين مختلف الإيديولوجيات اذ تزامن مع وضع مجلة الأحوال الشخصية بروز تيار محافظ يسعي للتشبث بالموروث الإسلامي ، وإلي وجود تيار متحرر يرنو إلي التغبير والقطع الكلي مع التشريع الإسلامي لعدم مواكبته العصر، ولئن قام المشرع بوضع قواعد قانونية تعتبر جريئة نوعا ما بمنع تعدد الزوجات مثلا إلا أنه سكت عن عدة مسائل أخريلازالت تشكل إلي اليوم موضع خلافا حيث ترك المشرع للقاضي هنا دور سد الفراغ التشريعي من ذلك زواج المسلمة بغيرالمسلم أو ميراث الإبن الطبيعي.
يمكن أن يكون كذلك السكوت قصديا عندما يتعلق الآمر بسكوت المشرع عن تقديم تعاريف لمصطلحات معينة لفسح المجال أمام الفقهاء وفقه القضاء لتقديم تعاريف تتماشي وروح العصر بآعتبار أنها مصطلحات متغيرة وغير ثابتة ومثال ذلك سكوت المشرع عن تعريف النظام العام أو الأخلاق الحميدة رغم ما تلعبه هذه المفاهيم من دور في المنظومة التشريعية حيث برتب المشرع عن مخالفتها جزاء البطلان المطلق .، وهو ما يستخلص منه أن المشرع
لم يعرفها بشكل قصدي نظرا لما تتميز به هذه المصطلحات من مفعول متغير نتيجة للتطورات
الحاصلة في المجتمع.
أما السكوت غير القصدي فهو ذلك السكوت الذي يبرز عندما لا يوجد نص يحمل حلا للواقعة المعروضة ولم يكن سكوت المشرع عن تلك المسألة سكوتا مقصودا ،وبآعتبار الواجب المحمول علي القاضي بالفصل في النزاع فإنه لا يمكنه التغاضي عن وظيفته ورفض الدعوي
وفي هذا الإطار ليس من العسير استحضار شواهد علي الحلول الي آستنبطها فقه القضاء في غياب المقتضى التشريعي، ولئن نجدها نادرة فهي موجودة وتقيم الحجة علي الدور الاجتهادي لفقه القضاء المدني ومن ذلك يمكن أن نذكر مبدأ عدم رجعية القوانين حيث لم يورد التشريع المدني الوطني مبدأ عام لفض تنازع القوانين في الزمان بل آكتفى بالإشارة إلي بعض الحلول الإنتقالية في أحكام متفرقة ،وتأسيسا علي تلك المقتضيات الخاصة تبنى فقه القضاء في قرارات عديدة "مبدأ عدم رجعية القوانين "وأصلت محكمة التعقيب تبنيها لهذا المبدأ كمبدأ عام علي أنه من المبادئ الأساسية لأنه يتماشى مع المنطق والعدل ، كذلك فيما يتعلق بحق الجنين في التعويض حيث خصه المشرع بأحكام خاصة ذات طابع آستثنائي تقر له الحق في الإرث وفي الإستفادة من الوصية والتأمين ،لكن مع ذلك أقر فقه القضاء
للجنين حقا آخر غير وارد بأي نص خاص وهو الحق في التعويض عن الضرر المعنوي ،اذ آعتبرت محكمة التعقيب سنة 1996أن الجنبن كائن يحس ويتآلم وسيشعر بالحرمان من عطف والده والإشراف على رعايته هذا بالإضافة لإحساسه باليتم الذي سيلازمه طيلة حياته
28
ويري شق آخر من شراح القانون أن سكوت النص يمكن أن يقسم الي صنفين: سكوت صحي وسكوت مرضي ، ويعرف السكوت الصحي بأنه ذلك السكوت الذي يعتري المنظومة التشريعية حول مسائل معينه لايرى المشرع من فائده في التعرض إليها بإعتبارها من المسائل البديهية التي لا يؤثر غيابها في الوصول لحل يفصل في نزاع ما لأنها ناتجة عن قواعد المنطق السليم ، منطقا لا يستدعي الحاجة لأن يضع المشرع الفرضية ونفيضها حيث يمكن فهم إرادة المشرع وآستنتاج أحكامه بصفة ضمنية من خلال آعمال قاعدة الإستناج بمفهوم المخالفة ومثال ذلك مانص عليه الفصل 7م ا ع حيث اقر المشرع أن كل ذكرا كان أو انثى تجاوز سنه ثمانية عشرة سنة يعتبر رشيدا وبناءا عليه وبقراءة عكسية لمنطوق الفصل يمكن أن نفهم بكل بساطة أن من لم يتجاوز هاته السن يعتبر قاصرا لأن الأمور يمكن أن تفهم بنقيضها.
كما يمكن ان يعد السكوت صحيا أو متعمدا اذا تعلق الأمر بالقواعد العامة للقانون والتي تعرض لها المشرع في الباب الثاني "في تفسير العقود وبعض القواعد القانونية العامة" صلب الفرع الثاني "في بعض قواعد عامة تتعلق بالقانون "حيث وضع المشرع مجموعة من الفصول القانونية التي شكلت الإطار العام للأحكام العامة في المادة المدنية اذ بالرجوع إليها يمكن آستنتاج أحكام لم ينص المشرع عليها صراحة لتفادي التضخم التشريعي وهي أحكاما مبنية على المنطق السليم ومثال ذلك يمكن أن نذكر أحكام الفصل 550م إع الذي ينص على أن من أمكنه الأكثر أمكنه الأقل
وبناءا علي ذلك فإنه يمكن القول بأن عندما يضع المشرع حكما معينا لأسباب معينة ويسكت عن مسألة اقل أهمية وخطورة من المسألة الأولى يجوز القول بأن الإباحة تمتد وتسري من باب أولي وأحرى علي ماهو أقل أهمية وخطورة لأن من أمكنه الأكثر أمكنه ضمنيا وبالضرورة الأقل فإذا أجاز المشرع في نص لشخص معين آمكانية البيع وسكت عن الكراء أمكن بفضل المنطق ومن باب أولى وأحرى إجازة الكراء لأنه تصرفا قانونيا أقل خطورة من البيع
أما السكوت المرضي فمرده أن التشريع ماهو إلا عمل آنساني وبالتالي يمكن أن يشوبه نقص أو يتخلله فراغ من باب السهو يوم وضع القاعدة القانونية ،زيادة علي أنه يفترض وجوبا مجهودا تآويليا من طرف القاضي.
ويمكن أن يتجسد مثلا في أن المشرع بمكن أن يمنع سلوكا محددا دون أن يحدد الجزاء المنطبق في صورة مخالفة هذا المنع.
الجزء الثاني:
منهجية تأويل سكوت النص
الجزء الثاني : منهجية تأويل سكوت النص
إنّ سكوت النص في بعض الحالات وغيابه في حالات أخرى لا نعني به غياب الحل فذلك قد يسبّب انهيار النظام القانوني بأكمله
و عليه فإن القاضي في هذه الحالات ملزم بإيجاد الحلول التشريعية المناسبة للبت في النزاع
.
م.ا.ع و الذي يمنح القاضي إما إستعمال القياس كحل أولي و 535و ذلك على أساس الفصل هو عنوان الفرع الاول وعند عجزه و قصره نلتجأ للقواعد العامة للقانون في عنوان ثاني
أ- القياس
في صورة وجود سكوت للنص فإن الآليات و الوسائل المتاحة للقاضي هي أساسا
.م.إ.ع 33من خلال القياس كحل أولي535الفصل
و هي وسيلة متعارف عليها في التشريع الإسلامي و فقهه 34 و ليست طريقة مستحدثة من أحكام الشافعية كما يعتقد البعض بل تمّ استعمالها منذ للقرن الأول و
33 0- الفصل 535 :"إذا تعذرّه الحكم بنص صريح من القانون إعتبرالقياس فإن بقي شك جرى الحكم على مقتضى القواعد العامة للقانون
"
الثاني هجري من قبل فقهاء المالكية و الحنفية فقد عرّفه الغزالي بقوله "هو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما في إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما ، ثم إن كان الجامع موجب الإجتماع على
"الحكم كان قياسا صحيحا و إلا كان فاسدا
و بعبارة أخرى فهو حمل حكم الفرع على حكم الأصل لإشتراكهما في العلّة
أما في القانون فهو إعطاء حالة ورد فيها فراغ تشريعي نص حكم لحالة أخرى و أركان و هي الأصل و الفرع و 4ذلك عند تشابه العلتّين بينهما أي انّ له تحديدا
.الحكم الأصلي و العلةّ
و خلاصة القول فهي عملية فكرية تضفي استنتاج أمر غير منصوص على حكمه بآخر منصوص عليه لإتحاد العلةّ بينهما
و من المهم الاشارة هنا أن القانون التونسي قد حدد أنواع القياس في مجلة و هو 535الالتزامات و العقود و هم القياس الطردي المنصوص عليه بالفصل التماثل و التشابه بين الحالتين و القياس العكسي و هو المنصوص عليه في م.إ.ع534 الفصل
و هي قاعدة من 550و القياس من باب أولى و أحرى الذي نص عليه الفصل
.أمكنه الأكثر أمكنه الاقل
بالنسبة للقياس الطردي فهو القياس بالتماثل أي التطابق التام أو بالتشابه و هو التطابق الجزئي و يطرح إختلافات فقهية لصعوبة القيام به
و عليه فإن هذا التماثل وجب أن يتعلق بعنصرين رئيسين لا ثانويين و لكن يبقى ذلك محل جدل بما انه يمنح سلطة تقديرية واسعة للقاضي
بالنسبة للقياس العكسي فهو الاستنتاج بمفهوم المخالفة فإذا ينطبق النص لوضع حكم معين و يسكت في شأن الافتراض المناقض ، يمكن انطلاقا من قراءة معكوسة إستنتاج م.إ.ع و الذي ينص أن 482قاعدة تحدد الحكم الغائب و مثال ذلك الفصل أحكام مجالس لبلاد الأجنبية لا تعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها حتى يصدر
.الحكم بتنفيذها من المجالس التونسية
فإنه يجوز إستنتاج بصفة عكسية أن الحكم الأجنبي الذي تم اكساؤه الصيغة التنفيذية يعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها
فقد تم التنصيص عليه في 550أما بالنسبة للقياس من باب أولى و أحرى و بالإضافة الفصل عدة قرارات تعقيبية فيقصد بها أن حكم المشرع في مسائل معينة يمكن له ان يمتد إلى مسائل أقل أهمية منها كمن له الحق في التصرف في العقار فإن بإمكانه إدارته
و لا بدّ هنا من التذكير أن آلية القياس هي قاعدة معتمدة من مدرسة الشرح على المتون في صورة غياب النص
كان لا يخفى على مختصي القانون ان هذه المقارنة بين الفرضيات تؤدي بنا إلى
:استخراج حالات قيام القياس و نميز هنا بين حالتين
و هي 535الحالة الأولى و هي حالة القياس بتفويض تشريعي عام المنصوص عليها بالفصل إعمال القياس لمحاولة سد الفراغ التشريعي
الحالة الثانية و هي حالة القياس بتفويض تشريعي خاص و هي تقنية يعتمدها المشرع تجعله يكتفي بذكر حالة وحيدة صلب القاعدة القانونية و ترك مهمة تحديد بقية الفرضيات للقاضي
فالغاية الاساسية من القياس هي تحقيق الانسجام القانوني بين القواعد التشريعية و القواعد المستحدثة
و هو ما يعني تحقيق المساواة بين الافراد أمام القانون و منه نظام قانوني موحد و منسجم . كما يؤدي القياس إلى التقليل من التضخم التشريعي و الحد من تدخل
.المشرع من مزيد إصدار القوانين بحكم تسارع تطور المجتمع
و لكن و مع ما للقياس من اهميات و حلول قانونية يقدمها فإنه كذلك يشكو من نقائص عند تطبيقه
أولها السلطة التقديرية الواسعة للقاضي في تحديد التماثلات في القياس الطردي كما ان القياس العكسي يطرح صعوبة بدوره في تحديد الحالتين العامة و الخاصة و التمييز بينها تمييزا واضحا و جليا مما يفتح الباب لإستنتاج حلول لا تتماشى
.مع إرادة المشرع
كذلك لا يمكن الحديث عن القياس خارج إطار النص التشريعي القياس لا يخلق قواعد قانونية جديدة و لكنه يوسع من مجال القواعد القانونية الموجودة سلفا لمدرسة الشرح
على المتون إعتمدته لجعل كل النقاش لا يتجاوز محور النص
و هو ما أقدم عليه كذلك الفقه الإسلامي حيث اكتفى بتفسير و شرح النصوص
ب - القواعد العامة للقانون
م.إ.ع على إعتماد آلية القياس كوسيلة535مثلما نص المشرع في الفصل لسد الفراغ التشريعي فقد نص نفس الفصل على آلية ثانية لللتأويل يقع اللجوء إليها
.بعد إخفاق الوسيلة الأولى ألا و هي القواعد العامة للقانون
.و هي في حقيقة الأمر مجموع الأسباب و العوامل التي تشكّل القاعدة القانونية
و قد نص المشرع على شرط الالتجاء اليها من خلال عبارة 'إن بقي شك 'و التي
وردت في نص الفصل غامضة يما انها عبارة فلسفية أكثر منها قانونية و هي عبارة غير دقيقة توجب علينا تحديد الحالات التي يبقى فيها هذا الشك و هي إما عند إستحالة تطبيق القياس لأي سبب من الأسباب أو أن الحل الناتج عن القياس غير مقنع أو غير مناسب الواقعة الموجودة و هو ما يدفع بالقاضي إلى تجاوز القياس و الاتجاه
.نحو القواعد العامة للقانون
إلا أن هذا المصطلح بدوره يثير جدلا فقهية واسعا حيث تتعدد حوله الآراء و
.التعاريف خاصة حول حجيته في اعتباره كمصدر لسد الفراغ التشريعي
م.إ.ع صراحة عليه خاصة و انه قد نصت عليه تحت عنوان 535فقد نص الفصل إلى 532 'في بعض القواعد العامة تتعلق بالقانون 'و هي الفصول من م.إ.ع563
كما وجب الإشارة ان القواعد العامة للقانون قد تبناها المشرع التونسي بصفة استثنائية فأغلب التشريعات المقارنة تستعمل مفهوما اخر مقارب و هو المبادئ
.العامة للقانون
كما اعتبر الاستاذان محمد الشرفي و علي المزغني أن هذه القواعد هي قواعد مستمدة
من الفقه الإسلامي تم اقتباسها من مجلة الأحكام العدلية العثمانية و هي في حقيقة الأمر تتجه إلى الفقه لا إلى القضاء و قد وُجهت هذه القواعد إلى مفسري الآيات .القرآنية في حين لا تمثل اي جدوى للقضاة لصعوبة التعامل معها و تطبيقهاغير أن الأستاذ محمد العربي هاشم له رأي مخالف حيث يعتبر ان هذه القواعد لها أهمية أخرى و هي استلهام الحلول من مصادر أخرى سواء المدونة ضمن
.مجلة الإلتزام و العقود أو الأحكام العدلية أو غيرها
و يختلف معنى العمومية بإختلاف أصناف القواعد فهي إما قواعد خاصة و هي القواعد
التي يتم تطبيقها على الوضعيات الخاصة ، القواعد المتعلقة بالنظرية العامة و هي القواعد النظرية و كذلك المبادئ العامة للقانون و التي تتميز بدرجة عالية من
.العمومية
لا يمكن أن تكون لا عادية و لا نظرية 563إلى 532و الأكيد أن الفصول من فهل يمكن إعتبارها من المبادئ العامة للقانون ؟
و قد إختلف الفقهاء في تحديد مفهوم قواعد القانون العمومية في علاقته بالمبادئ العامة للقانون فمنهم من اعتبرها قواعد جامعة لقواعد الفقه الإسلامي و للمبادئ التي يمكن إستلهامها من فلسفة القانون أي ان القواعد القانون العمومية في جزء كبير و هام منها تحتوي على المبادئ العامة للقانون أي أنها تنتمي إلى صنف القواعد القانونية ذات العمومية المطلقة و هو رأي الأستاذ محمد العربي الهاشم و الذي يختلف عن الاستاذان محمد الشرفي و علي المزغني فقد قسما هذه القواعد مجموعات4 إلى
و هي الشرح و القياس و التأويل المنطقي و قواعد الفقه الإسلامي فلا وجود للمبادئ العامة بل و أبعد من ذلك أن هذه القواعد يرفضون إعتبارها قواعد قانونية ذات صبغة
.إلزامية مع التفضيل إستعمال القياس فقط
من المجلة المدنية الإيطالية غير 3مستلهم من الفصل 535و مثال ذلك أن الفصل ات المشرع قد عوّض عبارة المبادئ العامة للقانون و الأكيد أن ذلك كان على
.قصد
و خلاصة القول فالمبادئ العامة للقانون هي مجموعة من المقترحات التوجيهية يكوّن كل بناء فكري لاحق تابع لها
إن هذه الإختلافات التي تميز بيها الفقه في بعض المسائل يوحي بخطر عدم
إستقرار و لكنه يؤثر على حيوية الاجتهاد القضائي ذلك أنه تتعدد تطبيقات هذه القواعد و تكون مصادرها مختلفة و متنوّعة فيمكن أن تكون فلسفيةّ أو دينيةّ أو إجتماعية أو غيرها و
.هي أساس العرف و الفقه الإسلامي والمبادئ الدستورية و قواعد العدل و الانصاف
و يمكن أن تلجأ المحكمة إلى العرف و هو سنةّ يتبعها الناس مع شعورهم بإلزامها إلزاما قانونيا و هو مصدر تلقائي للقانون ليس في حاجة لا بنصّ و لا بتفويض من المشرّع حتى يتمّ العمل به و لكن لا بدّ من حدّ أدنى من تأطير للعرف و
تنظيمه و ذلك بمنع مخالفتها للنصوص المكتوبة و إلزام المتمسك به بإثباته و م.إ.ع543544ذلك طبقا للفصول
و هو ما دأبت عليه محكمة التعقيب فهي لا تقبل أن تؤسس قاعدة ما على العرف حال وجود نصّ تشريعي فهي لا تقبل بإستعمال العرف إلا عند الفراغ التشريعي و قد تعمل به و لو بغياب تفويض تشريعي لتقرّ بذلك في عدة قرارات تعقيبية فعرف الجهة
يعتمد فيما اعتاد أهلها بينهم بالعدّ و الحدّ دون الكيل و التداعي الاستحقاقي يكون في أحيان ما يخضع فيه وجوبا للعرف الجاري به العمل بجهة محل النزاع و إن إعتماد محكمة القرار على ما جاء بكتب الصداق لا يدل دلالة قطعية على كامل المهر إذ العادة في كثير من الجهات على تسجيل مهر رمزي بعقد الصداق دون ذكره كله .
و لكنها تشترط دائما إثباته بإعتباره واقعة قانونية تثبت بجميع الوسائل و من ذلك م.ت.ب 145العرف البحري المعفى من ضمان نقص الطريق حسب الفصل
.الذي يثبت بالقرائن و تقارير الخبراء في ضبط النسبة العرفية
و خلاصة القول أنّ محكمة التعقيب أقرّت بكون العرف مصدرا قائم الذات للقانون و هو مصدر ثانوي لا يعتدّ به إلا عند غياب النص و بعد التحقق من
.إثباته
و يمكن للقاضي كذلك الإعتماد في حال سكوت النص على التشريعات التي إستلهم منها المشرّع بعض النصوص و لعل أبرزها قواعد الفقه الإسلامي و إذ تنقسم هذه القواعد إلى كليةّ أصولية و قواعد فرعية تفصيلية , و القواعد
م.إ.ع هي القواعد الفقهية الأصولية غير 535المقصودة بالاحالة في الفصل
المعددة بالمجلة و التي تعد من القواعد العامة إعتمادا على المصدر المادي لمجلة الالتزامات و العقود و هو ما أكدته محكمة التعقيب في عدة قرارات من بينها
و التي استندت فيه المحكمة في إحدى حيثياتها على عبارة 1982أكتوبر 12قرار من مجلة الاحكام العدلية7"المضرة لا تحتز "و هي قاعدة مأخوذة من المادة لأنها ليست من القواعد 535إلا أن القواعد الفرعية لا تنتمي لمجال الفصل العامة و لكن يكفي حضور أصوله لتؤخذ فروعه عند الاقتضاء
كما يمكن للقاضي عند سكوت النص الاعتماد على المبادئ الدستورية و الحقوق الاساسية و هي مجموع الأفكار و القيم المعبّرة عن الحقوق و الحريات و التي يضمنها الدستور و التي تهم القانون المدني كحرمة الفرد و المساواة و حق الملكية و غيرها ..الخ
و هذه الحقوق إذا كان التنصيص عليها صراحة فهي أعلى منمن كل أصناف القانون و لا إشكال في ذلك
و لكن في صورة كانت الصياغة فضفاضة و غير دقيقة فإن للقاضي إمكانية أن يستنبط منه الحلول فمبدأ المساواة أمام القانون هو قاعدة قانونية عامة كما
اعتبرته محكمة التعقيب و لكنه في حقيقة الأمر مبدأ دستوري تم التنصيص عليه في الفصل 2014و منصوص عليه في الدستور 1959من دستور 6في الفصل
21 هي استلهام عند القيام535ووجب الإشارة ان هذه الاحالة التي يقرها الفصل بعملية التأويل و بذلك فإن هذه الإحالة ليست للتطبيق المباشر. بل هي وسائل
يستعملها القاضي للاستهداء للحل القانوني لحل النزاع و هي نفس الحالة المنطبقة في قواعد العدل و الانصاف
و قواعد العدل و الانصاف هي الشعور بالعدل في حالات خاصة حين يغيب النص و هو ما تستند عليه المحكمة أحيانا تحت عبارة" قواعد العدل و
. "الانصاففكرة العدل الانصاف في حقيقة الأمر موجودة في كل القواعد القانونية و هي روح كل الأحكام و القرارات الصادرة عن المحاكم غير انه و في بعض الحالات قد يجد القاضي نفسه أمام مشكل قانوني حقيقي لا يقدر على حله سوى بوجدانه و بشعوره يالانصاف و العدالة و لكن هذه الحالات في حقيقة الأمر مشروطة بشرطين اساسين ، أولهما انه لا حديث عن مبادئ العدالة و الانصاف في وجود نص قانوني أو إمكانية لقيام القياس فقاعدة العدل و الانصاف و حسب قرار 18أفريل 2000لا مجال للإحتكام إليها الا عند انتفاء النص و تعذر القياس اما ثانيها فهو انه على القاضي استلهام هذه القواعد من روح التشريع و و مقاصده غير أن هذه المقاصد في حقيقة الأمر ليست هي القواعد العامة و لكن هذه القواعد هي وسيلة و آلية يعتمدها القاضي لتحقيق هذه المقاصد .
إرسال تعليق