U3F1ZWV6ZTI4MDc4MjUzNjU5NzYxX0ZyZWUxNzcxNDE5MDM1OTI4NQ==

مكافحة الفساد

 


<


I- أسباب استفحال ظاهرة الفساد


أ‌- ضعف الترسانة التشريعية

ب‌- تشتت المتدخلين


II- الحلول المقترحة لمكافحة الفساد

أ‌- توفر الإرادة السياسة 

ب‌- ترجمة الإرادة السياسية 



ملاحظة: نفس المعلومات يمكن أن تكون مدخلا لخطط أخرى. فالأمر يتوقف على طريقة طرح الموضوع.



منظومة الفساد وسبل مكافحتها 

 "الفساد أخطر من الإرهاب"... "الفساد يعطل نمو الاقتصاد"..."الحرب ضد الفساد" ...هناك في الواقع خطابا مستنفرا في محاولة لمحاصرة ظاهرة الفساد أو الحد منها، غير أن هذا الاستنفار لم يستتبعه نتائج فعلية، والحصيلة تبدو متواضعة جدا وهنا تكمن المفارقة: كيف نفسر هذا التباين بين الخطاب السياسي المستنفر ونتائجه المتواضعة؟  وأين الخلل؟ إنها المعضلة الصعبة التي تطرح اليوم في علاقة بمكافحة الفساد والجواب هو تغييب السياسات العامة بوصفها إطارا شموليا لمعالجة الأزمات وتجاوزها بفاعلية.

والسياسات العامة les politiques publiques  هو علم مستحدث؛ ظهر في الولايات المتحدة في الستينات وانتشر في أوروبا في السبعينات وهي تصل بين الاقتصاد والعلوم الإدارية والعلوم السياسية ولكن سرعان ما أصبحت مبحثا مركزيا في إطار دراسات العلوم السياسية ومحاورها . وهي تتضمن أكثر من أربعين تعريف ولكن جلها يجمع على أنها مجموع القرارات والإجراءات والأنشطة المتناسقة والمترابطة والمتفاعلة فيما بينها التي تصدر عن مجموعة من الفاعلين العمومين( acteurs publics) بغية تحقيق أهداف واضحة وفق برنامج عملي.

أما الفساد أو بالأحرى منظومة الفساد بوصفها مجموعة من العناصر المتشابكة فيما بينها التي تشمل مختلف القطاعات والمستويات، فإنها تتطلب بدورها منظومة من الإجراءات والخطط المتشابكة للتصدي لها. وهذا ما شدد عليه تقرير لجنة عبد الفتاح عمر بالقول بأن مكافحة منظومة الفساد يتطلب استراتجيه عامة ومتكاملة ؛ علما وإن أشكال الفساد المعترف بها دوليا متعددة ولا تقتصر فقط على استغلال النفوذ لتحقيق أغراض خاصة، فهي تشمل أيضا بحسب إتفاقيّة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد 2003 الرشوة بجميع أنواعها سواء في القطاعين العام أو الخاص، والمتاجرة بالنفوذ ، واستغلال الوظائف ، والإثراء غير المشروع ، والإخفاء ، وإعاقة سير العدالة بما فيها استخدام  التهديد والترهيب واستخدام القوة البدنية، والمحاباة، واعتماد التصاريح المزورة وغيرها من أوجه الفساد الأخرى. 

وبالرغم من الخطوات الجريئة التي تحققت منذ الثورة، فإن الوضع الحالي لمكافحة الفساد مازال يقف على نفس النتيجة تقريبا التي توصلت إليها لجنة عبد الفتاح عمر في 2011 وهي" تشتت الرؤية في مجال مكافحة الفساد ونقص الإطار القانوني وضعف أداء الهياكل وغياب التأطير الفعلي لمشاركة أفراد المجتمع في مجهود الوقاية والردع" .

وهي النتيجة نفسها التي نعثر على ترجتمها العلمية ضمن أفق السياسات العامة وتصوراتها وهي أساسا: ضعف الترسانة التشريعية ، تشتت المتدخلين، غياب الإرادة السياسة وغياب ترجمتها.


ضعف الترسانة التشريعية 

فيما يتعلق بضعف الترسانة التشريعية وهي رأس حربة كل سياسة عامة ترمي إلى تحقيق غاية محددة، فالواضح إنها كانت ومازلت ضعيفة ومهتزة. فقبل الثورة كانت الحصيلة هزيلة جدا وهي تتلخص في ثلاث نصوص تقريبا: هناك أولا الفصل 96 ( ولكنه ليس الوحيد) من المجلة الجزائية والذي شكل مرجعا ومنطلقا لرفع جل الدعاوى التي استهدفت رموز النظام البائد أمام القضاء، غير أن هذا الفصل الذي يعاقب بالسجن كل أشكال الاختلاس والرشوة، وهو نص يعود إلى سنة 1910 تاريخ وضع المجلة الجزائية، لا يبدو انه يشكل أساسا متينا لمكافحة الفساد المستشري في الدولة. وقد ذهب الأستاذ بشير الفرشيشي- وهو المختص في المادة الجنائية- إلى أن تطبيق هذا الفصل لمحاكمة رموز النظام السابق لم يكن في محله.

النص الثاني يتعلق بالفصل 48 من القانون المنظم لمؤسسات القرض الذي صدر في 2001، وكان يرمي لحماية المعاملات البنكية وما يترتب عنها من فساد بالأموال وتلاعب بها. وهو فصل لا يرمي إلى مكافحة الفساد بقدر ما يرمي إلى حماية النظام المصرفي والبنكي. 


أما النص الثالث فيتعلق بالاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد والتي صادقت عليها الدولة التونسية سنة 2008 ولكن دون أن تعمل على تنزيلها في قوانينها المحلية.


أما بعد الثورة فقد طرح موضوع مكافحة الفساد بإلحاح وعرفت التشريعات نقلة نوعية  ويمكن اعتبار المرسوم الصادر عن الرئيس المؤقت آنذاك فؤاد المبزع في 18 فيفري 2011 بمثابة الأرضية التي مهدت لكل القوانين المناهضة للفساد التي جاءت فيما بعد. غير أن المشكل هو أن القوانين التي تمت المصادقة عليها فيما بعد لم تكن تخلو من ثغرات جمة.  

- فالمرسوم المتعلق بالأموال المصادرة كاد أن يسقط بقرار من المحكمة الإدارية بحجة عدم شرعيته؛ ذلك أن المراسيم بطبيعتها مؤقتة. وهي تحتاج إلى مدة زمنية وجيزة حتى يصادق عليها البرلمان وتتحول إلى قانون أو يرفض البرلمان عليها فتدخل في حسبان الأوامر. وهذا ما لم يحصل بالنسبة للمراسيم التي صدرت في عهد الرئيس المؤقت فؤاد المبزع وجعلها عرضة للإبطال  ومدار نقاش قانوني حول طبيعتها القانونية  .


أما بخصوص المرسوم الإطاري المتعلق بمكافحة الفساد (عدد 120-2011) ، فإنه أحدث هيئة مؤقتة لمكافحة الفساد ولم يشر صراحة إلى حقها في ممارسة السلطة الترتبية. ولكنه أشار إلى أن قرارات الهيئة ذات الصبغة العامة المتعلقة بمجال اختصاصها تنشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية (الفصل 39). وهذه عبارات مبهمة وغامضة : فهل كان المشرع يقصد بالقرارات ذات الصبغة العامة القرارات الترتيبية وهي القرارات التي يترتب عنها أثارا قانونية؟ وإذا لم تكن  هذه القرارات ترتبية فبأي معنى نفهم نشرها في الرائد السمي؟

كذلك بالنسبة لقانون الإبلاغ عن المفسدين وحماية المبلغين ( عدد 10/2017 ) فقد تم حصر الفساد في حالات معينة متجاهلا حالات أخرى: كيف نفسر عدم الإشارة إلى الفساد الذي يحدث على مستوى الصفقات العمومية مثلا. ثم تم حصر قنوات التبليغ وجوبا لهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد التي عليها أن تتخذ التدابير الضامنة لحمایة هويّة المبلغ وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن سبب إقصاء المجتمع المدني والإعلام البديل! لماذا لم تتح الفرصة للمبلغين عن الفساد اللجوء إلى وسائل الإعلام للتبليغ عن شبهات فساد على الأقل في بعض الصور المحددة؟ من ذلك مثلا في حال تجاهل تبليغاتهم أو بعد أن يتم استيفاء جميع المراحل والآجال لدى الهيكل الإداري المختص! .


أما القانون الأساسي المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة (عدد 55/2014)، فإنه لم يخص بعقوبة السجن الأشخاص الذين يعطلون النفاذ إلى المعلومة مكتفيا بالعقوبات التأديبية التي تبقى في نهاية الأمر مجرد عقوبات صورية أكثر منها عقوبات فعلية.


ولعل مشروع القانون الأساسي المتعلق بالأحكام المشتركة بين الهيئات الدستورية المستقلة (عدد 302016-) يعد مثالا واضحا عن حالة الثغرات التي تنخر جملة التشريعات التي تمت المصادقة عليها إلى حد الآن. وهي ثغرات أكدتها الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين بعد أن تم الطعن فيها من قبل مجموعة من النواب المعترضين؛ إذ أقرت بعدم دستورية الفصل 33 وما تبعه من تنصيص عليه بالفصلين 11 و24 من المشروع نفسه .


تشتت الفاعلون او المتدخلون


يعتبر الفاعلون(les acteurs)  مفهوما مركزيا في السياسات العامة وعادة ما يتم توزيعهم إلى أصناف: هناك الفاعلون التقليديون مثل رئيس الجمهورية والوزراء والبرلمان وأجهزة القضاء. 

والفاعلون الجدد وهم الموظفون السامون والإدارة والأحزاب السياسية وزعماء الرأي والسياسة والخبراء وجماعات الضغط والشبكات الاجتماعية .

وهناك الفاعلون العرضيون أو غير المختصين les profanes) (: وهم الفاعلون الذين يتدخلون في القرار السياسي بصورة عرضية دون أن يكونوا من طائفة السياسين أو الخبراء أو حتى المناضلين . 


وعلى أية حال فإن المتدخلين في مكافحة الفساد في تونس كثر وهم أساسا الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وهي هيئة مؤقتة في انتظار الهيئة الدستورية الدائمة والقطب القضائي والمالي وهو يعاني من صعوبات جمة سواء على مستوى الإمكانيات المتاحة أو على مستوى نظامه وأساسه القانوني ودائرتي المحاسبات والزجر المالي وتمارسان رقابة لاحقة ولجنة التحكيم والمصالحة المنبثقة من صلب هيئة الحقيقة والكرامة وتجد صعوبة في تعامل السلطة التنفيذية معها بايجابية والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين والتي باتت في حكم الاحتضار في انتظار المحكمة الدستورية الدائمة المرتقبة والمحكمة الإدارية والهيئات الرقابية للمال العام الموجودة صلب بعض الوزارات ولكنها تفتقد الاستقلالية والقدرة على التحرك التلقائي والإرادي. (وهي هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية التابعة لرئاسة الحكومة وهيئة الرقابة العامة للمالية التابعة لوزارة المالية وهيئة الرقابة العامة لأملاك الدولة والشؤون العقارية) التابعة لوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية، ولجنة التحاليل المالية التابعة للبنك المركزي فضلا عن منظمة الشفافية الدولية وهي تصدر تقريرا سنويا لمؤشر الفساد في العالم ومختلف الجمعيات الوطنية مثل أنا يقظ.


بطبيعة الحال هناك فاعلون أو مؤسسات ورثناها عن النظام القديم ولكن متدخلون كثر برزوا بعد الثورة. وهذا أمر ايجابي ولكن المشكل من زاوية السياسات العامة هو عدم خضوع كل هؤلاء الفاعلين إلى شبكة من العلاقات المتداخلة والمتفاعلة ضمن أفق عقلاني كما يقول بيار مولر Pierre Muller  . 

وهو الأمر الذي أشارت إليه لجنة عبد الفتاح عمر عندما شددت على الحاجة إلى الالتزام بثلاث مبادئ أساسية: مبدأ التشارك الذي يفترض عدم إلغاء الهياكل القائمة وباقي المتدخلين ولا تعوضهم، بل تجمعهم وتنسق تدخلاتهم وتعززها ومبدأ التكامل الذي يقضي بتوفير إطار لتبادل الخبرات والمعلومات والحوار بين مختلف المتدخلين ومبدأ الشمولية الذي يقضي التدخل في الجانب الوقائي والجانب الزجري فضلا عن التعاون الدولي  ، غير أن الواقع يكشف عن توتر في العلاقات بين مختلف الأطراف المتدخلة وغياب التنسيق والتواصل فيما بينهم. والنتيجة باختصار أن تعدد الفاعلين قد أدى إلى اختلاف الرؤى في تحديد الجهة المتدخلة لمكافحة الفساد والجهة المعنية  بالفساد، فضلا عن تباين الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك .

فهناك من يتحدث عن الفساد وفي ذهنه النظام البائد، هناك من يتحدث عن الفساد وفي ذهنه حقبة الترويكا وهناك من يتحدث عن الفساد وفي ذهنه الأحزاب السياسية، بل هناك من لم ير في الفساد إلا ما يشاع من اتهامات حول هيئة الحقيقة والكرامة والتي بدورها مكلفة بمكافحة الفساد !.


ويعتبر مشروع المصالحة الذي بادرت بتقديمه رئاسة الجمهورية، دليلا واضحا على هذا التخبط بين المتدخلين. 

فهذا المشروع لم تستشر فيه رئاسة الجمهورية لا هيئة مكافحة الفساد ولا هيئة الحقيقة والكرامة وهو يلقى معارضة شرسة من أحزاب المعارضة والمجتمع المدني وحتى من الفاعلين الدوليين على غرار منظمة الشفافية الدولية والبرلمان الأوروبي. وقد اعتبرت ايفا جولي نائبة رئيس لجنة التحقيق بالبرلمان الأوروبي بأن حجج المدافعين عن قانون "المصالحة الاقتصادية" سخيفة للغاية" .

وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع قانون الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد حيث "لم يتم الحصول على الرأي المسبق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد". وقد صرح شوقي الطبيب في هذا الصدد إلى أن المصادقة على قانون هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد شكل خيانة للدستور وهو ما يجعل  العلاقة بين شوقي الطبيب والهيئة التي يشرف عليها من جهة والبرلمان والحكومة من جهة أخرى متوترة ومهزوزة ، وهو ما يقوم دليلا على غياب الرؤية الواضحة وتباين رؤى المتدخلين. 


هذا التخبط على المستوى القانوني يعكس في الحقيقة تخبط على المستوى السياسي وهو تخبط يتضح من خلال غياب الإرادة السياسية وغياب ترجمتها.


غياب الإرادة السياسية 


غياب الإرادة السياسة ظهر من خلال التأخير في تقديم مشاريع القوانين من قبل الحكومة في مرحلة أولى وتعطيلها داخل مجلس النواب في مرحلة ثانية. فمشروع قانون حماية المبلغين مثلا لم يتم إحالته من قبل حكومة الشاهد إلى البرلمان إلا بعد 7 أشهر من توليه زمام الحكومة. والحال أن المشروع كان جاهزا منذ حكومة الحبيب الصيد، كما يظهر هذا الغياب للإرادة السياسية من خلال جملة من مشاريع القوانين التي تقدمت بها الحكومة وصادق عليها البرلمان رغم مخالفتها للدستور وهو ما أكدته الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين في أكثر من مناسبة . 


غياب الإرادة السياسية يتضح أيضا من خلال حصر جل صلاحيات هيئة  الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في بعدها الاستشاري والاعتباري، وهو ما أثار حفيظة رئيس هيئة مكافحة الفساد الحالية الذي أصدر أكثر من بيان في هذا الخصوص طالب فيه نواب الشعب بالالتزام بأحكام الدستور والاعتراف بحق الهيئة الجديدة في ممارسة صلاحيتها كاملة ؛ مشددا على أن القانون وقع إفراغه من محتواه لاسيما بعدما تم تجريد الهيئة من حقها في ممارسة السلطة الترتبية في مجال اختصاصها . ونحن نتفهم موقفه هذا ؛ فبالرجوع إلى القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها مثلا، وعلى سبيل المقارنة، يبدو الاعتراف بالسلطة الترتبية لهيئة الحقيقة والكرامة واضحا؛ فقد جاء في الفصل 63 على وجه الخصوص: "يعطي هذا القانون للهيئة سلطة اتخاذ القرارات لتسيير مختلف مهامها وانجازها، وكامل الصلاحيات للقيام بواجباتها المنصوص عليها بهذا القانون". وهذا ما يكشف عن تذبذب في رؤى المشرع بين مرحلة وأخرى.


كما اتضح غياب الإرادة السياسية من خلال الامتناع إلى حد الآن عن القيام بما يلزم من إصلاحات على مستوى منظومة قاضي التحقيق ودور النيابة العمومية ومراجعة دور الشرطية العدلية بما يجعلها شريكا في مكافحة الفساد .


مشروع  قانون المصالحة الوطنية مرة أخرى هو دليل على غياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد. وقد صرح المكلف العام بنزاعات الدولة لزهر الجويلي  بعدما اعفي من مهامه في  28 أفريل 2017 إلى أن الحكومة لا تتعاطى بشكل جيد مع ملف استرجاع الأموال المنهوبة وان هناك تعطيلا كبيرا في مسارات مكافحة الفساد .


أما حملة يوسف الشاهد على الفساد التي انحصرت في اعتقال بعض رجال الأعمال وبعض المهربين وحجز ممتلكاتهم، فهي دليلا آخر على حالة التخبط بين مختلف المتدخلين وغياب الإرادة السياسية الحقيقة في مكافحة الفساد بصورة عقلانية وجذرية، فقد كشفت هذه الحملة وبقطع النظر عن نتائجها المتواضعة عن نقيصتين أساسيتين: 

اللجوء إلى قوانين استثنائية خارج الترسانة القانونية التي وضعت منذ الثورة وإلى اليوم خصيصا لمكافحة الفساد. وهو ما يجعلنا نتساءل عن جدوى صياغة القوانين إذا كانت هناك طرق أخرى لمكافحة الفساد قد تكون أكثر نجاعة. والعمل بشكل منفرد خارج أي إستراتجية متكاملة ومترابطة مع مختلف الأطراف المعنية بالموضوع. فظهرت الحرب وكأنها سياسة شخص وليست سياسة دولة وهو ما جعلها عرضة لوابل من النقد والتشكيك، بل واتهام رئيس الحكومة بتصفية حساباته مع خصومه والانحناء إلى إملاءات اتحاد الأعراف والتجارة والصناعات التقليدية بوصفه المستفيد الأبرز من حملات مقاومة التجارة الموازية والتصدي للتهريب. 


غياب الترجمة السياسية 


أما عن غياب الترجمة السياسية الذي يحيلنا مباشرة إلى البرنامج بوصفه مفهوما مركزيا في السياسات العامة، فهو غياب يتضح من خلال تغييب جملة الخطوات الأساسية التي من شأنها أن تفضي نجاعة أكبر على مكافحة الفساد وذلك مثلا من خلال (ولسنا هنا في وارد ذكرها جميعها):


- تجديد المناهج المدرسية والجامعية بما يضع مكافحة الفساد في قلب العملية التربوية .


-إلزام الإدارة بما يلزم من مدونات السلوك ومناهج التصرف الرشيدة في المال العمومي 


-تجديد الخطاب الديني في المساجد وربطه بمكافحة الفساد ضمن أفق وطني ومجتمعي إصلاحي يأخذ بثنائية الخير والشر ويتجاوزها بما يحقق التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي. ولعل هذا ما قصده تقرير لجنة عبد الفتاح عمر بالقول إلى أن مقاومة الفساد يبقى محدودا ما لم يتزامن مع الوقاية منه وتغيير ما ترسخ في العقول وما شاب الأخلاق من استخفاف وزيغ . 

-التصدي إلى أي نوع من أنواع الخطاب المتهاون مع الفساد والمبرر لوجوده بشتى الذرائع في محاولة لتمييع الموضوع والاستخفاف بخطورته فضلا عن ضرورة تشريك للمجتمع المدني واعتباره شريكا حقيقيا في الحرب على الفساد، كما ينبغي العمل على إصلاح المؤسسات الإعلامية وما اتصل بها، فلا يمكن محاربة الفساد بإعلام فاسد وصحافة فاسدة وأحزاب فاسدة.


وهنا لابد من الإشارة أيضا إلى الحاجة الملحة إلى هيكل تنسيقي جامع يجمع بين مختلف الأطراف المتدخلة ويوحد الرؤى والاستراتجيات والسياسات. وقد تشكلت بالفعل لهذا الغرض وزارة للفساد والحوكمة الرشيدة إبان حكم الترويكا ولكن سرعان ما تم الاستغناء عنها بقدوم حكومة النداء وهو ما يضع مرة أخرى الفعل من جهة والخطاب من جهة أخرى أمام تباين صارخ.


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة